مستقبل الثقافة- تحديات التكنولوجيا وتآكل الهوية في عالم متغير

المؤلف: د. خالد حاجي10.29.2025
مستقبل الثقافة- تحديات التكنولوجيا وتآكل الهوية في عالم متغير

مما لا شك فيه أن كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، الذي خطّه عميد الأدب العربي طه حسين، يُعدّ من أبرز المؤلفات التي تركت بصمة واضحة في مسيرة الفكر والثقافة، إذ أحدث حراكًا ملموسًا، ورسم معالم طريق، وأورث إرثًا لا يُستهان به. وبغض النظر عن الآراء والأطروحات التي احتواها الكتاب، والتي قد لا تلقى قبولًا واستحسانًا بالإجماع، فإنه لا يمكن للقارئ الفطن إلا أن يُبدي إعجابه وتقديره العميقين للمؤلف، وأن يثنيَ على حُسن اختياره للموضوع الذي تصدّى له، وعلى قدرته الفائقة على صياغة الأسئلة التي تتناسب مع مقتضيات المرحلة التاريخية الراهنة.

من الجدير بالذكر أن طه حسين، من خلال تناوله لموضوع مستقبل الثقافة في مصر، كان يسعى جاهدًا للإجابة عن سلسلة من التساؤلات التي طرحت في أعقاب توقيع مصر "معاهدة الشرف والاستقلال" مع بريطانيا عام 1936. لقد كانت تلك الحقبة الزمنية بمثابة نقطة تحول محورية، ومرحلة فاصلة تقتضي طرح أسئلة استشرافية ترمي إلى استكشاف آفاق المستقبل وغاياته. وإذا كان التفكير في المستقبل أمرًا بالغ الأهمية، فإن التفكير في مستقبل الثقافة يكتسب أهمية مضاعفة؛ ذلك أننا اعتدنا أن ننظر إلى الثقافة من زاوية ما هو قائم ومتحقق، لا من منظور ما سيؤول إليه المصير.

مرجعيتان ثقافيتان

فالثقافة، في الوجدان الجمعي، هي بمثابة مُعطى ثابت وواقع موروث، ونحن نميل إلى التفكير فيها من منظور ما هو كائن وموجود، لا من منطلق ما سيكون ويتحقق؛ وبناءً على هذا التصور، يمكننا أن ندرج الثقافة ضمن نطاق التراث الذي يُخيل إلينا أنه إرث ينتقل من جيل إلى جيل؛ إلا أن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن الثقافة، شأنها شأن التراث، لا تُورَث، بل تتطلب جهدًا مضنيًا وعناءً شديدًا ممن يسعى إلى الانتماء إليها أو امتلاكها، فضلًا عمن يطمح إلى إعادة تشكيلها أو صياغتها.

يبقى السؤال الذي طرحه طه حسين في منتصف القرن الماضي ماثلًا أمامنا، دون أن يلقى الباحث عن إجابة شافية. بل إنه ازداد إلحاحًا واستعصاءً، إذ أصبح جزءًا لا يتجزأ من سؤال أعم وأشمل، يتعلق ليس فقط بمستقبل الثقافة المصرية أو العربية والإسلامية، بل بمستقبل الثقافة الإنسانية جمعاء.

لقد كان المتسائل عن مستقبل الثقافة في سياق مجتمعات ما بعد الاستعمار العربية والإسلامية ينطلق من إحدى مرجعيتين أساسيتين: مرجعية تتوق إلى وصل الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة بالثقافة الغربية الحديثة، باعتبارها أفقًا للتغيير والتجديد؛ ومرجعية أخرى تحذر من خطر الغزو الفكري والذوبان في ثقافة الآخر. وفي كلتا الحالتين، كان الحديث عن الثقافة ينطلق من منطلق الإقرار بوجود جوهر فريد ومتميز لكل ثقافة، يجعلها قابلة أو غير قابلة للتفاعل والاندماج مع ثقافات أخرى. ويتضح لنا هذا جليًا من خلال إصرار طه حسين على إرجاع الثقافة المصرية إلى أصول تقربها من الثقافة الغربية، وتبعدها عن الثقافة الشرقية على سبيل المثال.

عند إمعان النظر، نجد أننا اليوم ننتقل من مرحلة ما بعد الاستعمار إلى مرحلة جديدة، تدفعنا إلى إعادة النظر في قضية الثقافة من زوايا مختلفة. صحيح أن العديد من المفكرين في عالمنا العربي والإسلامي ما زالوا منشغلين بالسؤال الذي طرحه طه حسين أو نظراؤه من رواد مشاريع النهضة الثقافية والحضارية في الماضي، إلا أن السياق المعاصر يفرض علينا أسئلة جديدة، بعضها صيغ بوضوح، والبعض الآخر لا يزال في طور التكوين والتبلور.

حين نتصفح كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، نلمس نزعة شمولية تدفع المفكر إلى تقديم إجابات جامعة مانعة، تفسر أسباب التراجع والتخلف لدينا، وأسباب التقدم والازدهار لدى الآخرين، وذلك بهدف تحديد السبل الكفيلة بإنعاش وتجديد العالم العربي والإسلامي. ولا شك في أن هذه الشمولية في الطرح الفكري كانت جزءًا من الشمولية السياسية المهيمنة التي طالما سعت على مر العصور إلى فرض رؤية أحادية للعالم، وإقصاء ما عداها من الاحتمالات الممكنة.

ثنائيات حاكمة

عندما نتأمل في دلالات الثقافة اليوم وفي واقعها المعيش، ندرك يقينًا أن التفكير في مستقبل الثقافة في العالم العربي والإسلامي لن يكون مثمرًا ما دام مرتبطًا بالثنائيات التي هيمنت على العقل في مرحلة ما بعد الاستعمار، وما دام أسيرًا لشمولية فكرية تسعى إلى استكشاف جوهر الأشياء.

فالثقافات ليست كيانات مكتفية بذاتها، منغلقة على العالم الخارجي، أو كيانات لا تتغير ولا تتبدل عبر الزمن، ولا تحيد عن جوهر ثابت ومستقر. بل إن الثقافة كائن حي نابض بالحياة، لا يوجد إلا في تفاعل دائم مع الثقافات الأخرى، سواء كان هذا التفاعل صراعًا وتنافرًا، أم تصالحًا وتداخلًا.

يشهد الغرب اليوم ظهور مؤلفات تعكس قلقًا بالغًا بشأن واقع الثقافة الغربية ومستقبلها. ويتضح ذلك جليًا للمتتبع لكتابات "أوليفيي روا" (Olivier Roy)، الذي يتساءل في أحد كتبه: "هل أوروبا مسيحية؟" (L’Europe est-elle chrétienne)، وهو مسبوق بكتاب آخر لا يقل أهمية: "الجهل المقدس: زمن الدين بلا ثقافة" (La Sainte ignorance: le temps de la religion sans culture).

يخرج القارئ لهذين الكتابين بانطباع مفاده أن الغرب، على الرغم من تفوقه الحضاري وهيمنته السياسية على العالم، لم يحسم بعد مسألة هويته الثقافية، وأنه ليس أقل تخوفًا من العالم العربي والإسلامي حين يتعلق الأمر بمستقبل هذه الهوية.

بل يمكن القول؛ إن الخوف من الغزو الثقافي الخارجي أصبح اليوم سمة أوروبية بارزة. إذ نلاحظ توجهًا قويًا نحو سن قوانين تهدف إلى محاصرة "الإسلام"، الذي بات، بتجلياته الثقافية في الفضاء الأوروبي، يمثل تهديدًا ليس فقط للثقافة المسيحية، بل للثقافة العلمانية كذلك، كما يردد الكثيرون.

عند التأمل، نجد أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الثقافة اليوم، سواء كانت عربية إسلامية أم غربية مسيحية، ليس تحديًا صادرًا عن ثقافة الآخرين؛ بل هو تحدٍّ من نوع آخر، يكمن في تسيّب معنى الثقافة في المقام الأول. يليه تحدي التكنولوجيا التي أصبحت منظومة ثقافية قائمة بذاتها. أما بخصوص تسيّب معنى الثقافة، فقد بات من المألوف أن تُحمّل لفظة "ثقافة" معاني لا حصر لها، تتعدد بتعدد سياقات استعمالها، كأن نتحدث عن "ثقافة الاستهلاك"، أو "ثقافة المخدرات"، أو "ثقافة سباق السيارات"، أو "ثقافة هذه الموضة أو تلك"، ولك أن تتخيل كل ما يندرج تحت مسمى الثقافة من أفعال وأنماط سلوكية لا حد لها.

سطوة التكنولوجيا

لم يعد مفهوم الثقافة يقتصر على تلك الصورة المركزية التي تتمحور حولها نظرة المجتمع للكون وللذات، والتي تساهم في إنتاج المعاني الكبرى وفرض الإيقاع العام الذي تنضبط به أفعال الفرد والجماعة. فالثقافة، بمعانيها السامية، تعكس علاقة متينة مع الزمان والمكان، وهي العلاقة التي تملي أشكالًا بديعة ومستحسنة في التعبير والتواصل والإبداع، هذه الأشكال التي تبدو اليوم وكأنها في طريقها إلى الزوال، تتوارى خلف مظاهر السطحية والتفاهة المستحكمة.

إضافة إلى تسيّب المعنى، تواجه الثقافة اليوم تحديًا جسيمًا يتمثل في سطوة المنظومة التكنولوجية وهيمنتها على أشكال الإبداع الثقافي. صحيح أن الوسائل التكنولوجية أصبحت تُمكّن الفرد المبدع وتُوسّع له آفاق الإبداع، حتى بات الكثيرون يتحدثون عن "دمقرطة" الثقافة، أي تكافؤ الفرص بين الجميع في الحق في الإبداع الثقافي. غير أنه من الصحيح أيضًا أن هذه الوسائل، من حيث كونها تساهم في توسيع ساحة الإبداع الثقافي، فإنها في الوقت نفسه تساهم في تجريد هذا الإبداع من حسّ الانتماء إلى الزمان والمكان المشتركين.

يمكننا القول؛ إن الإبداع والتلقي الثقافيَين صارا شأنًا فرديًا في العصر التكنولوجي، حيث أصبحت الأداة التكنولوجية هي التي تحدد للإنسان وجهة الإبداع وتؤطر ذوقه بعيدًا عن الحس الجمعي المشترك. وعليه، يمكن القول؛ إننا ندخل زمن "شخصنة الثقافة". لم يعد الفرد، مهما كانت ميوله شاذة، يتقيد بالشروط التي تفرضها الثقافة، بل يكفيه أن يلج إلى العالم الافتراضي ليخلق بيئته الثقافية الخاصة به، بعيدًا عن رقابة الفضاء العام المرتبط بفضاء جغرافي صلب وبماضٍ مشترك.

لعل القول بشخصنة الثقافة هو ذاته القول بنهاية الثقافة، تمامًا كالقول بنهاية العلم ونهاية الديمقراطية ونهاية السياسة وغيرها من الأقوال التي تندرج في سياق الحديث عن النهايات. وعليه، فإن التفكير في مستقبل الثقافة في العالم العربي والإسلامي يستلزم الوعي الكامل بطبيعة المرحلة التاريخية الراهنة وما تشهده من تآكل للمنظومات الثقافية الموروثة.

تحديات متعددة

لم يعد بالإمكان التفكير في الثقافة من منطلق الإحياء والنهضة، أو من منطلق ازدواجية الذات والآخر؛ بل أصبح لزامًا على المهتم بمستقبل الثقافة أن ينطلق من مسلمة أساسية مفادها أن الثورة التكنولوجية اليوم بلغت ذروتها في تسطيح العالم وفتح الثقافات على بعضها البعض، وأنها بذلك إنما تنتج أنماطًا غير معهودة في إنتاج المعرفة والقوة والمهارات. لم يعد الإنسان يستمد قوته من ينابيع ثقافته الأم فحسب، بل صار يبحث عن مصادر هذه القوة أينما وجهته الوسيلة التكنولوجية إلى ذلك.

لا يعني هذا الكلام أن مستقبل الكائن الثقافي، في ظل هيمنة المنظومة التكنولوجية، هو بالضرورة أفضل من ماضيه. لكن مستقبل هذا الكائن يتوقف، بكل تأكيد، على مدى إدراكه لطبيعة الثورة التكنولوجية وتأثيراتها العميقة على الثقافة. وعليه، فقد بات من الضروري على كل من يرغب في التفكير في مستقبل الثقافة، في عالمنا العربي والإسلامي على وجه الخصوص، أن ينطلق من الوعي بأن مرحلة ما بعد الثورة التكنولوجية تختلف جوهريًا عن مرحلة ما قبلها؛ تمامًا كما أن مرحلة ما بعد الثورة الصناعية لم تكن مماثلة لمرحلة ما قبلها.

لا خلافَ في أن التفكير في مستقبل الثقافة وتدبير الشأن الثقافي في العالم العربي والإسلامي أصبح أمرًا عسيرًا في زمن استفحال هيمنة المنظومة التكنولوجية. ولا خلاف كذلك في أن كتابًا مثل "مستقبل الثقافة في مصر"، على الرغم من أهميته البالغة، لم يعد قادرًا على فتح آفاق جديدة للتفكير في سبل صياغة سياسات فكرية ترمي إلى توظيف التماسك الثقافي من أجل إنتاج المعرفة والقوة اللازمتين لمواجهة تحديات الواقع كما يصنعه ويحدده الذكاء التكنولوجي المهيمن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة